1/_ قاربت الساعة منتصف الليل٬ تحرك الرجال نحو بيوتهم، كان بينهم رجل رشيق، حليق الذقن٬ وسيم نوعاً ما، رماني بنظرة ثاقبة اخترقت جسدي البدين كسهم غادر. لم يكن الرجل من رواد المقهى. تردد عليها - فيما أذكر- مرتين أو ثلاثاً، تبين لي خلالها أني هدف خفي له بلا ريب، وتأكد حدسي تماماً، كان يرمقني بنظرات غامضة ضبطته متلبساً فيها بالتفاتات مفاجئة مني، لم يدر بيننا أي حوار كأن الحرب التي شنها علي سلاحها الوحيد النظرات الثاقبة والخاطفة، ماذا يريد هذا الأبله؟ وعلى العموم فبنيتي الجسدية ذات الكرش المترهلة لن يتحمل معها سوى بضع لطمات من يدي في عينيه تحسم تمردهما!..
لم أعره أي اهتمام. مضيت في طريقي٬ وإذ بيد من الخلف تجذبني٬ ضممت قبضتي استعداداً لاستقبال أي هجوم من صاحبي، واستدرت بحركة سريعة نحوه - جاءت على الرغم مني غاية في البطء بسبب بدانتي المفرطة - وقبضتي تستعد لتشق الهواء في سفر قصير لوجه هذا القادم الغريب!..
تجمدت في مكاني، إذ أن الذي جذبني من الخلف ليس هو كما توهمت، إنه النادل يطالبني بالحساب الذي نسيت دفعه في غمرة انشغالي بهذا المعتوه!
2/_ نفس الحكاية ونفس المطاردة الصامتة تتكرر هذه الليلة أيضاً، جئت مبكراً وجاء مبكراً كذلك، مما ولد احتمالاً بداخلي أن اللعين ربما كان يراقبني من مكان ما، هاهي نفس النظرات المتطفلة تخترق ثوبي بشغب وقح، أخذ مقعده هذه المرة على مقربة مني٬ لم أجد أوراق اللعب كما تعودت على الطاولة فصرخت بصوت قوي جعلته رسالة لهذا الوافد الذي عكر علي ارتياحي!..
هنيهة وجاء النادل يحمل أوراق اللعب والدهشة تملأ قسمات وجهه، وقرأت ما يدور بخلده٬ لم يكن من عادتي مناداته بهذه الطريقة٬ لقد جعلني هذا المعتوه أفقد أعصابي، وزاد من حنقي نظراته التي يمطرني بها من حين لآخر...
ساورني هاجس أن يكون الرجل مخبراً يترصد خطواتي ولكني أبعدت هذه الفكرة من عقلي تماماً لأنني ببساطة لا آبه بالسياسة بل أعتبرها مهنة للذين لا يستطيعون إتقان مهنة أخرى..غير أني عدت وقلبت الفكرة من جهاتها الأربع.. فربما قادهم الخطأ إلى اعتباري مناضلاً سياسياً كبيراً في حزب محظور٬ أو عضواً في جماعة إرهابية خطيرة..! وطاردتني الشكوك والهواجس...
الساعة العاشرة وعشر دقائق. انتظرت هنيهة حتى يأتي ''حميد'' زميلي في العمل والحي والذي أسامره كل ليلة بعد يوم شاق٬ نلعب الورق ونتسلى بكأس الشاي المنعنع الساخن...
هاهو هذا المعتوه يرميني بنظرة فاحصة طويلة خفق لها قلبي بشدة٬ هاهو يتجرأ ويتقدم نحوي، يبدو أنه وضع حداً لنظراته التي عجزت عن فك شفراتها٬ وقرر أن يكلمني في موضوع خمنه حدسي أنه ليس خيراً تماماً..
تفصد العرق من جبهتي بغزارة٬ لماذا يطاردني٬ قررت أن أصرخ في وجهه٬ أن أمسك عنقه متجاهلاً نظراته الشرسة..
- "طابت ليلتك"...
قالها ''حميد'' وهو يجرني من ذراعي نحو باب المقهى بقوة، تاركاً الشخص على بعد خطوة مني واقفاً في مكانه!.
3/_-"عليك اللعنة أهذا كل ما في الأمر؟! تجذبني من المقهى بفضفاضة وكأني قاتل ''كنيدي'' ٬ ثم تجرني إلى شقتك القذرة كي تكلمني عن عواطفك المريضة، ما شأني بك وب''نرجس'' هذه حتى تفسد علي جلوسي وراحتي! عليك اللعنة وعلى حبك الغبي"...
شعرت بالدماء تغلي في عروقه٬ اختفى وجهه البشوش٬ ونطقت عيناه شراً واضحاً، أدركت ساعتها مدى تعلقه بها وأحسست أنه من غير المستبعد أن يأتي سلوكاً عدوانياً رغم عمر صداقتنا الطويل، فجعلت أغير من نبرة صوتي:
- "إن وافقت على طلبك ستشكلان معا ثنائياً رائعاً يخلب الألباب ويشغل الناس. إنها جميلة وجذابة وأنت وسيم أيضا!"
4/_ لم يحضر الرجل إلى المقهى هذه الليلة٬ شعرت بنوع من الارتياح فقد أنعم بجلوس مريح بعيدا عن نظراته الفضولية٬ لكن حيزاً في قلبي ملأه التوتر خصوصاً أنه أراد أن يكلمني في المرة الأخيرة..
ارتشفت كأس الشاي الساخن على نغمات موسيقى شامية تنبعث من جهاز الراديو٬ ومضت الجلسة كما خمنت لها إلا من ثرثرة ''حميد'' بين الحين والآخر٬ وهو يكلمني عن'' نرجس'' تلك التي نسج حولها أحلامه الوردية، لم أعتن باختيار كلماتي عندما صارحته:
- "ستجني معروفاً بزواجك منها٬ ستنقذها من الضياع٬ مع يقيني التام بأنك أنت من سيضيع في نهاية المطاف!".
لاحظته يغير يده اليمنى من مكانها، يبسطها في الهواء، ظننت لوهلة أنه سيصفعني أو يكيل لي لطمة في كرشي المترهلة، الوغد كان رشيقاً مقارنة معي٬ ثم تبين لي أنه يمارس هوايته المعتادة في مطاردة الذباب!
- "لو تكلمت عنها مرة أخرى بهذه الطريقة فستنال مني مانالته هذه اللعينة!"
قالها وهو يمسك ذبابة بشكل مباغت كانت تحوم قرب رأسه وخبط الطابلة وانصرف..
5/_ ليلة أخرى من عمر هذه المطاردة الخرساء، أجلس، ويجلس الرجل الذي أصبح ملازماً لي كظلي٬ غاب''حميد'' وغابت ثرثرته، المقهى فارغة تماماً من الرواد على غير العادة، عيناه لا تفارقني..تبدوان و كأنهما لصقر يحملق في فريسته..! نظراته أكثر حدة والتهاباً هذه المرة٬ انتابتني قشعريرة باردة وأنا أراه يتقدم نحوي بخطوات واثقة، قلت مع نفسي:‹‹ ستنتهي هذه المسرحية السخيفة..››. استولى علي شعور مبهم جعلني أحس ببرودة تسري في أوصالي، الرجل يقترب أكثر وقلبي يقع مع كل ضربة من حذائه على الأرض المبلطة، وكلما اقترب تزداد نظراته قسوة حتى أصبح في مواجهتي تماماً، كدت أصرخ مستنجداً بالنادل، ولعلي أطلقت صرخة مكتومة ضاعت بداخلي، لم ﺃقو على شيء، غصت في مقعدي عندما رﺃيته يخرج ورقة بيضاء من جيب سترته دون أن يتكلم أو يلقي التحية قدم لي الورقة، تناولتها منه، تطلعت إليها باستغراب، كانت بيضاء وفارغة تماما ، مكتوب عليها فقط عبارة "مقهى منتصف الليل"، وبسرعة خرافية تحول المشهد تماماً وأنا أدس الورقة في جيبي من جديد..عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل، والنادل منهمك بجمع الكراسي و يستعد لإغلاق المقهى...